فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوابه صلى الله عليه وسلم بذلك مما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] الآية، وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 40، 41] والجمع بين هذه الرواية والرواية السابقة أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر لابن الزبعري أن الآية عامة لكل من عبد من دون الله تعالى بطريق دلالة النص وقال ابن الزبعري: أليس اليهود الخ ذكر عدم تناولها المذكورين عليهم السلام من حيث أنهم لم يشاركوا الأصنام في المعبودية من دون الله تعالى لعدم أمرهم ولا رضاهم بما كان الكفرة يفعلون، ولعل فيه رمزًا خفيًا إلى الدليل العقلي على عدم مؤاخذتهم ثم نزلت الآية تأكيدًا لعدم التناول، لَكِن لا يخفى أن هذه الرواية إن صحت تقتضي أن لا تكون الأصنام معبودة أيضًا لأنها لم تأمرهم بالعبادة فلا تكون {مَا} مطلقة عليها بل على الشياطين بناءً على أنها هي الآمرة الراضية بذلك فهي معبوداتهم.
ولذا قال إبراهيم عليه السلام: {سَوِيًّا ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} [مريم: 44] مع أنه كان يعبد الأصنام ظاهرًا.
ووجه إطلاقها عليها بناءً على أنها ليست لذوي العقول أنها أجريت مجرى الجمادات لكفرها، وفي قوله صلى الله عليه وسلم «التي أمرتهم» دون الذين أمروهم إشارة إلى ذلك، ثم في عدم تناول الآية الأصنام هنا من البعد ما فيه فلعل هذه الرواية لم تثبت، ولمولانا أبي السعود كلام مبناه خبر أنه صلى الله عليه وسلم رد على ابن الزبعري بقوله «ما أجلهك بلغة قومك...» الخ، وقد علمت ما قاله الحافظ ابن حجر فيه وهو وأمثاله المعول عليهم في أمثال ذلك فلا ينبغي الاغترار بذكره في أحكام الآمدي وشرح المواقف وفصول البدائع للفناري وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان.
وأورد على القول بأن العموم بدلالة النص والتخصيص بما نزل بعد حديث الخلاف في التخصيص بالمستقل المتراخي ويعلم الجواب عنه مما تقدم، وقيل هنا زيادة على ذلك.
إن ذلك ليس من تخصيص العام المختلف فيه لأن العام هناك هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعدًا مطلقًا معًا وهو ظاهر فيما فيه الدلالة عبارة والعموم هنا إنما فهم من دلالة النص، ولا يخفى أن الأمر المانع من التأخير ظاهر في عدم الفرق فتدبر فالمقام حري به، والحصب ما يرمى به وتهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة فهو خاص وضعًا عام استعمالًا.
وعن ابن عباس أنه الحطب بالزنجية.
وقرأ عليه وأبي وعائشة وابن الزبير وزيد بن على رضي الله تعالى عنهم {حطب} بالطاء.
وقرأ ابن أبي السميقع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن كثير {الله حَصَبُ} بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو مصدر وصف به للمبالغة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ {حضب} بالضاد المعجمة المفتوحة، وجاء عنه أيضًا إسكانها وبه قرأ كثير عزة، ومعنى الكل واحد وهو معنى الحصب بالصاد {جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} استئناف نحوي مؤكد لما قبله أو بدل من {حَصَبُ جَهَنَّمَ} وتبدل الجملة من المفرد ولا يضر كونه في حكم النتيجة، وجوز أبو البقاء كون الجملة حالًا من {جَهَنَّمَ} وهو كما ترى، واللام معوضة من على للدلالة على الاختصاص وأن ورودهم لأجلها، وهذا مبني على أن الأصل تعدى الورود إلى ذلك بعلى كما أشار إليه في القاموس بتفسيره بالإشراف على الماء وهو في الاستعمال كثير وإلا فقد قيل إنه متعد بنفسه كما في قوله تعالى: {ورودها} [الأنبياء: 99] فاللام للتقوية لكون المعمول مقدمًا والعامل فرعي، وقيل إن اللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى: {أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] وليس بذلك.
والظاهر أن الورود هنا ورود دخول والخطاب للكفرة وما يعبدون تغليبًا.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً} كما تزعمون أيها العابدون إياها {مَا وَرَدُوهَا} وحيث تبين ورودهم إياها على أتم وجه حيث أنهم حصب جهنم امتنع كونهم آلهة بالضرورة، وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين لأن المراد به إثبات نقيض ما يدعونه وهم يعدون إلهية الأصنام لا إلهيتها حتى يحتج بورودها النار على عدمها، نعم الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة فلا تغفل.
{وَكُلٌّ} من العبدة والمعبودين {فِيهَا خالدون} باقون إلى الأبد.
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} هو صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، وأصل الزفر كما قال الراغب: ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع، والظاهر أن ضمير {لَهُمْ} للكل أعني العبدة والمعبودين، وفيه تغليب العقلاء على غيرهم من الأصنام حيث جيء بضمير العقلاء راجعًا إلى الكل، ويجري ذلك في {خالدون} [الأنبياء: 99] أيضًا، وكذا غلب من يتأتى منه الزفير ممن فيه حياه على غيره من الأصنام أيضًا حيث نسب الزفير للجميع، وجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون حالها حال من معها ولها ما لهم فلا تغليب، وقيل: الضمير للمخاطبين في {إِنَّكُمْ} [الأنبياء: 98] خاصة على سبيل الالتفات فلا حاجة إلى القول بالتغليب أصلًا.
ورد بأنه يوجب تنافر النظم الكريم ألا ترى قوله تعالى: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] كيف جمع بينهم تغليبًا للمخاطبين فلو خص {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} لزم التفكيك، وكذا الكلام في قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب على ماقيل، وقيل: لا يسمعون لو نودي عليهم لشدة زفيرهم، وقيل: لا يسمعون ما يسرهم من الكلام إذ لا يكلمون إلا بما يكرهون، وقيل: إنهم يبتلون بالصمم حقيقة لظاهر قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97] وهو كما تزى، وذكر في حكمة إدخال المشركين النار مع معبوداتهم أنها زيادة غمهم برؤيتهم إياها معذبة مثلهم وقد كانوا يرجون شفاعتها، وقيل: زيادة غمهم برؤيتها معهم وهي السبب في عذابهم فقد قيل:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ** ه غذاء تضنى به الأجسام

وظاهر بعض الأخبار أن نهاية المخلدين أن لا يرى بعضهم بعضًا فقد روى ابن جرير وجماعة عن ابن مسعود أنه قال: إذا بقى في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره ثم قرأ الآية {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} ومنه يعلم قول آخر في {لاَ يَسْمَعُونَ} والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من الأوثان والأصنام: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي: ما يرمى به إليها: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: فلا منجى لهم منها.
قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة. حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب. ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة، ويستنفعون بشفاعتهم. فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي: ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} أي: من الهول وشدة العذاب. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار لهم فيها زفير والعياذ بالله تعالى. وأظهر الأقوال في الزفير: أنه كأول صوت الحمار، وأن الشهيق كآخره وقد بين تعالى أن أهل النار لهم فيها زفير في غير هذا الموضع وزاد على ذلك الشهيق والخلود، كقوله في هود: {فَأَمَا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 106- 107] الآية.
قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل النار لا يسمعون فيها. وبين في غير هذا الموضع: أنهم لا يتكلمون ولا يبصرون، كقوله في الإسراء: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] الآية، وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124]، وقوله: {وَوَقَعَ القول بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} [النمل: 85] مع أنه جلا وعلا ذكر في آيات أخر ما يدل على أنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون، كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] الآية، وقوله: {رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12] الآية، وقوله: {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53] الآية. وقد بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في طه فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}.
جملة {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}.
جواب عن قولهم {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97] إلى آخره.
فهي مقول قول محذوف على طريقة المحاورات.
فالتقدير: يقال لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَب جهنّم.
وهو ارتقاء في ثبورهم فهم قالوا: {يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا} [الأنبياء: 97] فأخبروا بأن آلهتهم وهم أعزّ عليهم من أنفسهم وأبعد في أنظارهم عن أن يلحقهم سوء صائرون إلى مصيرهم من الخزي والهوان، ولذلك أكد الخبر بحرف التأكيد لأنهم كانوا بحيث ينكرون ذلك.
و ما موصولة وأكثر استعمالها فيما يكون فيه صاحب الصلة غير عاقل.
وأطلقت هنا على معبوداتهم من الأصنام والجنّ والشياطين تغليبًا، على أن ما تستعمل فيما هو أعمّ من العاقل وغيره استعمالًا كثيرًا في كلام العرب.
وكانت أصنامهم ومعبوداتهم حاضرة في ذلك المشهد كما دلّت عليه الإشارة {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها}.
والحصَب: اسم بمعنى المحصوب به، أي المرمي به.
ومنه سُميت الحصباء لأنها حجارة يرمى بها، أي يُرمَوْن في جهنم، كما قال تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24] أي الكفار وأصنامهم.
وجملة {أنتم لها واردون} بيان لجملة {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}.
والمقصود منه: تقريب الحصْب بهم في جهنم لِما يدلّ عليه قوله: {واردون} من الاتصاف بورود النار في الحال كما هو شأن الخبر باسم الفاعل فإنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال.
وقد زيد في نكايتهم بإظهار خطئهم في عبادتهم تلك الأصنام بأن أشهدوا إيرادها النار وقيل لهم: {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها}.
وذُيل ذلك بقوله تعالى: {وكل فيها خالدون} أي هم وأصنامهم.
والزفير: النفَس يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغمّ.
وهو هنا من أحوال المشركين دون الأصنام.
وقرينة معاد الضمائر واضحة.
وعطف جملة {وهم فيها لا يسمعون} اقتضاه قوله: {لهم فيها زفير} لأن شأن الزفير أن يُسمع فأخبر الله بأنهم من شدة العذاب يفقِدون السمع بهذه المناسبة.
فالآية واضحة السياق في المقصود منها غنية عن التلفيق.
وقد روى ابن إسحاق في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد الحرام فجاء النَضْر بن الحارث فجلس معهم في مجلس من رجال قريش، فتَلا رسول الله عليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ثم قام رسول الله وأقبل عبد الله بن الزِبَعْرَى السهمي قبل أن يُسلم فحدثه الوليد بن المغيرة بما جرى في ذلك المجلس فقال عبدالله بن الزِبعْرى: أما والله لو وجدتُه لخصمته، فاسألوا محمدًا أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع مَن عبدوهم؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهودُ تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم.
فحُكِي ذلك لرسول الله، فقال رسول الله: إن كلّ من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبَده، إنهم إنما يعبدون الشيطانَ الذي أمرهم بعبادتهم، فأنزل الله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101]اهـ.
وقريب من هذا في أسباب النزول للواحدي، وفي الكشاف مع زيادات أن ابن الزبعرى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر هذا وزاد فقال: خُصِمْتَ وربّ هذه البَنِيّة ألستَ تزعم أن الملائكة عباد مكرمَون، وأن عيسى عبد صالح، وأن عزيرا عبد صالح، وهذه بنو مُلَيْح يعبدون الملائكة، وهذه النصارى يعبدون المسيح، وهذه اليهود يعبدون عزيرًا، فضجّ أهل مكة أي فرَحًا وقالوا: إن محمدًا قد خُصم.
ورويت القصة في بعض كتب العربية وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن الزِبَعْرى: مَا أجهلك بلغة قومك إني قلت {وما تعبدون}، وما لمَا لا يعقل ولم أقل ومَن تعبدون.
وإن الآية حكت ما يجري يوم الحشر وليس سياقها إنذارًا للمشركين حتى يكون قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] تخصيصًا لها، أو تكون القصة سببًا لنزوله. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
فالذين اتخذتموهم آلهة من دون الله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر والأشجار سيسبقونكم إلى جهنم لنقطع عليكم أيَّ أمل في النجاة؛ لأنهم حين يروْنَ العذاب ربما تذكّروا هؤلاء، وفكَّروا في اللجوء إليهم والاستنجاد بهم، لعلّهم يُخرِجِونهم من هذا المأزق، وقد سبق أنْ قالوا عنهم: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3].
لذلك، يجمعهم الله جميعًا في جهنم ليقطع عنهم الآمال، ويبدو خجل المعبود وخيبة العابد؛ لأنه جاء النارَ فوجد معبوده قد سبقه إليها.. لَكِن، هل هذا الكلام على إطلاقه فقد عبد الكفارُ الأصنامَ، ومنهم مَنْ عبدوا عيسى عليه السلام، ومنهم مَنْ عبدوا عُزَيْرًا، ومنهم مَنْ عبدوا الملائكة، فهل سيُجمع هؤلاء أيضًا مع عابديهم في النار؟
لو قُلْنا بهذا الرأي فدخولهم النار مثلما دخلها إبراهيم، فجمع الله له النار والسلامة في وقت واحد، ويكون وجودهم لمجرد أنْ يراهم عابدوهم، ويعلموا أنهم لا ينفعونهم.
ومعنى {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الحصب مثل: الحطب، وهو كل ما تُوقَد به النار أيًا كان خشبًا أو قَشًا أو بترولًا أو كهرباء، وفي آية أخرى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] لذلك فإن النار نفسها تشتاق للكفار، وتنتظرهم، وتتلهّف عليهم كما يقول تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وقوله تعالى: {إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 7- 8] وقوله تعالى: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] الورود هنا بمعنى: الدخول والمباشرة، لا كالورود في الآية الأخرى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71].
ثم يقول الحق سبحانه: {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا}.
لأنهم سيدخلون فيجدون آلهتهم أمامهم؛ لينْقطِع أملهم في شفاعتهم التي يظنونها، كما قال تعالى في شأن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] فرئيسهم وفُتوتهم يتقدمهم، ويسبقهم إلى النار، فلو لم يكُنْ أمامهم لظنوا أنه ينقذهم من هذا المأزق. ولو كان هؤلاء آلهة- كما تدَّعون- ما وردوا النار.
ومعنى: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 99] لأن المعروف عن النار أنها تأكل ما فيها، ثم تنتهي، أما هذه النار فلا نهايةَ لها، فكلما نضجَتْ جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها، وهكذا تظل النار مُتوقِّدة لا تنطفئ. ومعنى {كُلٌّ} [الأنبياء: 99] أي: العابد والمعبود.
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)}.
معلوم أن الزفير هو الخارج من عملية التنفس، فالإنسان يأخذ في الشهيق الأكسجين، ويُخرِج في الزفير ثاني أكسيد الكربون، فنلحظ أن التعبير هنا اقتصر على الزفير دون الشهيق؛ لأن الزفير هو الهواء الساخن الخارج، وليس في النار هواء للشهيق، فكأنه لا شهيقَ لهم، أعاذنا الله من العذاب.
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100].
وهذه من الآيات التي توقف عندها المستشرقون، لأن هناك آياتٍ أخرى تُثبت لهم في النار سَمْعًا وكلامًا. كما في قوله سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] نعم، هم يسمعون، لَكِن لا يسمعون كلامًا يَسُرُّ، إنما يسمعون تبكيتًا وتأنيبًا، كما في قوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} [الأعراف: 50]. اهـ.